قواعد أسباب النزول

قواعد أسباب النزول

قواعد أسباب النزول

المطلب الأول: تعريف أسباب النزول.

لغة: هذه اللفظة (أسباب النزول) تتكون من كلمتين (أسباب) و(نزول)، ولمعرفة معناها لابد من بيان معنى كل كلمة، ثم معنى الكلمتين معا بعد أن صارتا علما لعلم مخصوص فأقول:
-         معنى السبب: هو كل شيء يتوصل به إلى غيره. وقيل كل شيء يتوسل به إلى شيء غيره، والجمع أسباب يأتي لعدة معاني منها:
1)   الوصل والمودة، قال تعالى {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت فهم الأسباب: 166} أي الوصل والمودات.
2)   ومنها الحبل، قال تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده مايفيط: 15} أي فليمدد بحبل إلى السماء والجامع بين هذه المعاني هو الوصول بالشيء إلى غيره.
-         معنى النزول: النزول في الأصل هو انحطاط من علو يقال: نزل عن دابته ونزل في مكان كذا حط رحله فيه، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.
قال تعالى: {يا بني أدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوأتكم وريشا}
وقال تعالى: {وأنزل من السماء ماء طهورا: 48}
اصطلاحا: تعريف أسباب النزول:
بعض التعريفات المتداولة في كتب المتأخرين:
-         عرف السيوطي سبب النزول فقال (والذي يتحرر في النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه)
-         وقال الزر قاني: (سبب النزول هو ما نزلت الآية، أو الآيات متحدثة عنه، أو مبينه لحكمه أيام وقوعه).
-         وقال القطان: (ولذا تعرف سبب النزول بما يأتي: هو ما نزل قران بشأنه وقت وقوعها كحادثة أو سؤال).
وأما التعريف الذي خلصت إليه بعد التتبع والاستقراء فهو: (كل قول أو فصل نزل بشأنه قران عند
وقوعه)1.

المطلب الثاني: قواعد أسباب النزول وتطبيقاته

أ – نزول القران تارة يكون مع تقرير الحكم وتارة يكون قبله، والعكس

توضيح القاعدة

معنى القاعدة: أن الآيات القرنية تارة يكون نزولها. مصاحبا لتقرير الحكم وتشريعه للأمة، حيث يشرع بنزول الآيات التي تتحدث عنه، وهذا هو الواقع في عامة أي القران وفي بعض الأحيان تنزل الآيات التي فيها إشارة لهذا الحكم قبل تشريعه بمدة قد تطول أو تقصر. وفي بعض الأحوال تنزل الآيات التي تتحدث عن الحكم بعد تشريعه بزمن2.

تطبيق القاعدة

ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طرق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن، وقال قوم "لا جناح عليكم" معناه: لا طلب لجميع المهر، بل عليكم نصف المعروض لمن فرض لها، والمتعة لمن لم يفرض لها.
وقيل: لما كان أمر المهر مكودا في الشرع فقد يتوهم أنه لابد من مهر. إما مسمى وإما مهر المثل، فرفع الحرج عن المطلق في وقت التطليق وإن لم يكن في النكاح مهر.
وقال قوم:"لا جناح عليكم" معناه: في أن ترسلوا الطلاق في وقت الحيض بخلاف المد خول بها، إذ غير المد خول بها لا عدة عليها.
قلت: ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت، خرج البخاري قال: حدثنا إسحاق، قال حدثنا روح،
قال: حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا. قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجب، فأنزل الله تعالى "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" إلى قوله من معروف" قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصينها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى " غير إخراج فإن خرجت فلا جناح عليكم" إلا أن القول الأول أظهر، لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالعبرة عند رأس الحول"3.

ب – سبب النزول له حكم الرفع

توضيح القاعدة

معرفة سبب النزول أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم علي بن ألمديني شيخ البخاري ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز وقد اختصره الجعبري. فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئا وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر كتاب مات عنه مسودة فلم نقف عليه كاملا وقد ألفت فيه كتابا حافلا موجزا محررا لم يؤلف مثله في هذا النوع سمينه "لباب النقول في أسباب النزول".
قال الجعبري: نزول القران عل قسمين: قسم نزل ابتداء وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال وفي هذا النوع مسائل.
المسألة الأولى:
زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن لجريانه مجرى التاريخ وأخطأ في ذلك بل له فوائد منها معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
ومنها: تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
ومنها الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال قال الواحدي: لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها.
و"قال أبن دقيق": العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القران.
وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب4.

تطبيق القاعدة


وتطبيق هذه القاعدة ما رواه أبو داود، عن زيد قال. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت: "حفظوا على الصلوات والصلوات الوسطى". وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين،
وروى مالك في موطئه، وأبو داود الطيالسي في مسنده عن زيد بن تابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر، زاد الطيالسي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير.
قال النحاس. و من هذا الاحتجاج أن يكون إنما قيل لها وسطى لأنها بين صلاتين: احدهما أول ما فرض، والأخرى الثانية مما فرض.
ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدّحداح إلى التصدّق بماله ابتغاء ثواب ربه:
أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن أحمد بن ربيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة – أعادها الله – في ربيع الأخر عام ثمانية وعشرين وست مئة قراءة مني عليه، قال: أخبرنا أبي إجازة قال: قرأت على أبي بكر عبد العزيز بن خلف بن مدتن الأزدي، عن أبي عبد الله بن سعدون سماعا عليه، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيّوة النّيسابوريّ سنة ست وستين وثلاث مئة، قال: أنبأنا عمّي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال: حدتنا محمد بن معاوية بن صالح قال: حدّثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، من عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}، قال أبو الدّحداح: يا رسول الله أو إنّ الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح"، قال أرني يدك. قال: فناوله، قال: فإني أقرضت الله حائطا فيه ستّ مئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأمّ الدحداح فيه وعياله، فنادها: يا أمّ الدحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي، قد أقرضت ربّي عزّ وجل حائطا فيه ستّ مئة نخلة.
وقال زيد بن أسلم: لما نزل: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}، قال أبو الدّحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال: "نعم يريد أن يدخلكم الجنة به". قال فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدّحداحة معي الجنة؟ قال "نعم" قال. ناواني يدك، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يدده. فقال: إن لي حديقتين احدهما بالسافلة والخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعل إحداهما لله، والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك" قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما الله تعالى، وهو حائط فيه ستّ مئة نخلة. قال: "إذا يجزيك الله به الجنة"5.

ج – الأصل عدم تكرار النزول

توضيح القاعدة

وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه وهذا كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين، مرة بمكة وأخرى بالمدينة وكما تبت في الصحيحين عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من إمرة قبله فأتى النبي الله صلى الله عيه وسلم فأخبره فأنزل الله تعالى {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلف من الليل إن الحسنات يدهن السيئات} فقال الرجل ألي هذا؟ فقال بل لجميع أمتي فهذا كان في المدينة والرجل قد ذكر الترميدي أو غيره أنه أبو اليسر،
والحكمة من هذا كله أنه قد بحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول أية وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها فتؤدى تلك الآية بعينها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكير لهم وبأنها تتضمن هذه والعالم قد تحدث له حوادث فيدكر أحاديث وآيات تتضمن الحكم في تلك الواقعة وإن لم تكن خطرت له تلك الحادثة قبل مع حفظه بذلك6.

تطبيق القاعدة

ما يوضح هذه القاعدة أو ما يبينها وهو ما رواه مسلم في صحيحة في أخر الباب عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" فقرأنها  ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: "حفظوا على الصلوات والصلوات الوسطى" فقال رجل: هي إذا صلاة العصر؟ فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت.
فلزم من هذا أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها. وأبهمت فارتفع التعيين، والله أعلم، وهذا اختيار مسلم، لأنه أتى به في أخر الباب وقال به غير واحد من العلماء المتأخرين.

د – القول في الأسباب موقوف على النقل السماع

توضيح القاعدة


ما أنزل فيه من الأسباب. غذ هي أوفي ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العماية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها. وجدوا في الطلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار. في العلم بالنار، أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الواعظ قال. أجبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن حامد العطار قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال: حدثنا ايت بن حماد قال: حدثنا أبو عوانة، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فإنه من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن كذب على القران من غير علم فليتبوأ مقعده من النار"، والسلف ماضون رحمهم الله كانوا من أبعد الغاية احترازا على القول في نزول الآية، أخبرنا أبو نصر أحمد بن عبيد الله المخلدي قال: أخبرنا أبو عمرو بن نجيد قال: أخبرنا أبو مسلم قال، حدثنا عبد الرحمان بن حماد قال: حدثنا ابن عون عن محمد بن سرين قال: سألت عبيدة عن أية من القران فقال: اتق الله وقل سدادا ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القران7.

تطبيق القاعدة

ويتجلى مثال هذه القاعدة في قوله السري "قانتين" ساكتين دليله : أن الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام، وهذا هو الصحيح، لما رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال "إن في الصلاة علي شغلا" وروي زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت "وقوموا لله قنتين" فأمرنا بالسكون، ونهينا عن الكلام. وقال زيد بن أرقم "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت" "وقوموا لله قنتين" الحديث وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة".

تتمة الموضوع من هنا قواعد في طرق التفسير



1 الكتاب المحرر في أسباب نزول القران من خلال الكتب التسعة دراسة الأسباب رواية ودراية للمؤلف: خالد بن سليمان المزيني الناشر: دار ابن الجوزية، الذمام – المملكة – العربية السعودية. الطبعة الأولى (1427 هجرية – 2006 ميلادية) عدد الأجزاء 2 الصفحة 105.
2 قواعد التفسير جمعا ودراستا للمؤلف خالد السبت دار ابن عفان الصفحة 58.
3 أمثلة للقاعدة كذلك في الصفحة 204 / 205.
4 الكتاب: الإتقان في علوم القران للمؤلف عبد الرحمان بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى 911 هجرية). المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب. الطبعة 4. الصفحة 108.
5 أمثلة للقاعدة كذلك في الصفحة 120.
6 الكتاب. البرهان في علوم القران للمؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن حليني الزركشي (المتوفى 794 هجرية) المحقق محمد أبو الفضل، إبراهيم الطبعة الأولى 1376 هجرية – 1957 ميلادية. الناشر دار إحياء الكتب العربية عيسى ألبابي الحليني وشركائه (ثم صورته دار المعرفة – بيروت، لبنان) الصفحة 29 / 31 الجزء 1.
7 الكتاب: أسباب نزول القران للمؤلف أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى 468 هجرية). المحقق: عصام بن عبد المحسن الحميدان الناشر دار الإصلاح – الذمام، الطبعة الثانية 1412 هجرية – 1992 ميلادية الجزء 1 الصفحة 8 / 9.

Post a Comment

أحدث أقدم